عرض مدونات الأديان من صنع الإنسان

30‏/12‏/2018

إشكاليات الأخلاق بين الدين والإلحاد

تدعوا كثير من النصوص الدينية المقدسة إلى قتل المختلفين فكريا أو اضطهادهم، وتشرع السبي والعبودية أو ملك اليمين وتأمر بتقطيع الأيدي والأرجل على جرائم وهمية مثل محاربة الله ورسوله، كما تأمر برجم الزاني أو جلده والتمييز المسيء ضد المرأة وقتل المثليين أو الاعتداء عليهم وغير ذلك من الامور العدوانية.

ألا يستلزم عدل الإله ورحمته إعلام الناس بأنه لم يرد ذلك الشر منهم ولم يرض به وأن تلك الأديان تكذب عليه؟

نفترض أن الإله قادر على أن يكون ذلك الإعلام مباشرة عند تحريف الدين دون تأخير وبطريقة تزيل الشك عما يريده الإله من الناس وليس بإرسال رسل يزيدون الإختلاف بين الناس.

يقول بعض المتدينين هنا ألستم تختلفون في الأخلاق والعدالة كلادينيين كل الإختلاف، بل كثير من الفلاسفة اللادينيين مثل جون ماكي و ريتشارد جويس يرفضون موضوعية الأخلاق ويقولون بخطأ مزاعم المقترحات الأخلاقية Moral Error Theory أو أن الحس الأخلاقي هو مجرد ناتج تطوري لا يمكن الوثوق به Evolutionary debunking argument، كما يقول آخرون بعدم وجود أي مقترح أصلا في تلك العبارات Moral Non-cognitivism، أو أن الأخلاق نسبية، أو أنها من صنع الضعفاء ليصطنعوا من ضعفهم خيرا ويذموا اعتداء الأقوياء عليهم كما يرى نيتشه ما يدعوه أخلاق العبيد؟
وحتى برتراند رسل الذي انتقد نيتشه لا يقول بأساس موضوعي للأخلاق بل إن الفرق بين الخير والشر عنده راجع إلى المشاعر وهو كاختلاف اللونين الأصفر والأزرق!
وممن يقول بأساس موضوعي للأخلاق يحاول إعادة تعريفها بشكل مخالف لمفهوم الأخلاق المتعارف عليه كليا أو يقبله إلى ضده كزعم آين راند أن الأخلاق هي فعل ما هو في مصلحتك الشخصية!
هل يوجد فعلا دافع وحافز للملحد لكي يكون أخلاقيا دون ثواب وعقاب حتى لو كان ضد مصلحته الشخصية؟
وكيف تفسرون المسؤولية الأخلاقية بدون حرية إرادة؟

لستُ بصدد الرد على هذه الإشكاليات التي لا أُنكر خطورتها وصعوبة الرد عليها إلا أن اللادينيين ليسوا جميعا شكوكيين أو نسبيين في الأخلاق فمنهم أيضا من يعتقد بوجود معايير موضوعية أو كونية للأخلاق كأن تكون له معتقدات أخلاقية شخصية أو يتبنى مذهبا أخلاقيا كمذهب الإنسانيين العلمانيين وبالتالي يمكنه الإعتراض على وقوع الشر إذا دافع عن رؤيته الأخلاقية.

قد يظن البعض هنا أن في نظرية الأمر الإلهي ومعتقد بعض الفرق الدينية (كالأشاعرة مثلا) جوابا على الإشكاليات الأخلاقية في الكتب الدينية المقدسة عند متبعيها فيقول إن الإله لا يمكن أن يكون ظالما لأنه هو وحده من يقرر ماهية الخير والشر، أي أن الخير والشر ليسا إلا ما يقضي الإله بأنه خير أو شر، وبالتالي يستحيل وقوع الشر أو الظلم من الإله.
إلا أن الخلل في هذا الزعم معروف منذ أن ذكر على لسان سقراط سؤاله المطروح على Euthyphro:
"هل ما تأمر به الآلهة حسن لأن الآلهة أمرت به، أم أن الآلهة أمرت به لأنه حسن؟"
ويمكن شرح العبارة كالتالي:
اختيار الإله لما هو خير أو شر إما أنه جرى عبثا واعتباطا أو هو لسبب موضوعي مستقل عن ذات الإله.
إذا كان الاختيار عبثا فلا معنى من قول أن الإله عادل رحيم ومدحه لفعله العبث.
أما إذا كان لسبب موضوعي فهذا السبب مستقل عن ذات الإله وليس خاصا به.

إذا كان الإله يفعل الخير لسبب موضوعي فهذا يعني أنه أمر معقول وبالتالي يصح للاديني أن يقدم رؤيته للأخلاق الموضوعية ولا يصح أن تلزمه بما لا يعتقده لمجرد التشابه في مسألة مختلفة هي اعتقاده ببشرية مصدر الدين كأن تلزمه بأفعال ستالين إلا إذا كان من المؤيدين لجرائمه.

عن نفسي أقول لا يبدو من الممكن للإرادة الحرة أن توجد في عالم يخضع للقوانين الفيزيائية ومع ذلك نحن بحاجة إلى معاقبة من يبتدئ الإضرار بالآخرين ضررا لا مبرر له رغم عدم امتلاكه حرية إرادة طالما تحقق جراء تلك العقوبة ردع من له نفس الميول العدوانية.
الاستنتاج المنطقي الناتج عن ذلك وعن كل ما لا يمكن منع وقوعه من الشر في العالم هو أن العدالة الكاملة وهم، وأن تقليل الظلم هو الممكن الوحيد.
وفق هذه الفكرة فالمجرم هو مجرد إنسان لديه لسوء حظه دوافع إيذاء قوية أو ضعف في السيطرة على رغباته. ورغم أنه لم يخلق تلك الرغبات والدوافع في نفسه لا بد من معاقبته لكي يمكننا الحياة في مجتمع يحفظ حقوق الأغلبية القادرة على التزام حد أدنى من الأخلاق. هذه العقوبة يجب أن تكون متناسبة مع حجم الضرر الذي سببه فكل إنسان يمكن أن يخطأ ولا نريد أن نعاقب الكثيرين عقابا أقسى مما يجب، والعقوبة غير المتناسبة هي ليست إلا عقوبة زائدا البدء باعتداء آخر.

إن ماهية الأخلاق على ما يبدو لي تكمن في التشابه بين الناس في امتلاكهم الإحساس والرغبات، لذا يبدو من العبث الاهتمام بمصلحة فرد دون فرد آخر.

قال كونفوشيوس الذي عاش بين سنتي 551–479 قبل ميلاد المسيح حين سئل عما يمكنه أن يكون مبدأ للسلوك في الحياة:
"ربما المعاملة بالمثل: لا تعامِل الآخرين بما لا تريد أن تعامَل".
ويمكن أن نفهم أهمية المعاملة بالمثل من كونها وسيلة فعالة لتشجيع الفرد على الاهتمام بمصلحة الآخر لكي يهتم الآخرون بمصلحته بالمقابل.

وللأخلاق المعيارية نظريات من أشهرها ثلاثة هي:
1- نظريات النتائجية Consequentialism ومن أشهرها نظرية المنفعة Utilitarianism والتي تنص على أن الفعل الأخلاقي هو الذي يحقق أكبر قدر من الخير لأكبر قدر من الناس أو من الكائنات الحساسة*
2- الأخلاق الواجبة Deontology: وتقول بان الفعل الأخلاقي يكون باتباع قواعد أخلاقية ثابتة ومن أشهر نظرياتها Categorical imperative للفيلسوف إيمانويل كانط والتي تقول:"تصرف فقط وفقا للقاعدة التي تعتقد أنها تصلح قانونا عالميا".
3- نظرية العقد الاجتماعي Social Contract تقول بأن الأخلاق نشأت لتعطي حلولا مرضية للأفراد ذوي المصالح في المجتمع وذلك بوضع قواعد تحكم كيفية للتعامل بين الناس يقبلها العقلاء طالما طبقت على الجميع لأجل مصلحتهم المشتركة. ومن مؤيديها توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو، ومؤخرا نظرية العدالة لجون رولز، مع اختلاف بينهم جميعا في التفاصيل لاسيما جون رولز والذي حاول حل مشكلة عدالة التوزيع (التوزيع العادل اجتماعيا للأغراض في المجتمع) باستخدام نسخة معدلة من العقد الاجتماعي. تـُعرَف النظرية الناتجة بعبارة "العدالة بكونها إنصافاً"، والتي اشتق منها رولز مبدأيه في العدالة: مبدأ التحرر ومبدأ الفرق.

* الكائنات الحساسة Sentient beings تشمل الحيوانات العليا كالفقاريات وخصوصا الأكثر تطورا منها كالثدييات والطيور فهي تتشابه مع الإنسان إلى حد كبير في الإحساس والرغبات. للمزيد انظر الشر الطبيعي والظلم الديني للحيوان.

لكن إن لم يكن للفرد دافع ذاتي للأخلاق فلم يكن فعل الخير يسعده ولا فعل الشر يؤنب ضميره فلماذا يهتم لأي حجة أخلاقية أصلا؟
كيف نقنع أمثال إيفان -شخصية في رواية الأُخوة كارامازوف لدوستويفسكي- بالتزام الأخلاق وهو الذي قال "إذا لم يكن هناك إله فكل شيء مسموح" ؟

الإجابة على هذا السؤال صعبة للغاية، ولا أزعم امتلاك جواب شاف عنه، وردي الوحيد هو بمقارنة سلبيات الإلحاد وإيجابياته مع تلك التي للأديان المختلفة.
وفي هذا الإطار يقول ستيفن واينبرغ:
"بدين أو بدونه سيقوم الأخيار بالخير والأشرار بالشر، لكن لتقنع الأخيار بفعل الشر فأنت بحاجة إلى دين"
لكني أظن أن بعض الأديان قد تقنع بعض الأشرار بفعل الخير أيضا، على الأقل لأجل أتباع المذهب الديني ذاته، فالإيمان بثواب أو عقاب اُخروي يؤثر على سلوك الفرد وقد يكون التأثير سيئا أو جيدا حسب تعاليم المذهب الديني الذي يتبعه ذلك المؤمن ومدى قبوله للتحديث والتطوير.
في حالة الإسلام مثلا نرى ضرر الإرهاب والشريعة أكثر بكثير من نفع بعض الأفعال الخيّرة التي قد يفعلها المسلم بدافع من دينه، بينما لا يصدق ذلك على البهائية مثلا ولا على المذاهب أو التيارات المحدثة لبعض الأديان والتي طوَّرت رؤية جديدة للكتب المقدسة كالمسيحية الليبرالية.

يظن البعض أن الأخلاق العملية ثابتة لا تتغير بتطورات العلوم والتكنولوجيا بينما تقدم العلوم والتكنولوجيا حلولا ينتفي بواسطتها ضرر بعض الأفعال فلا تعود ضارة وبالتالي لا تعود غير اخلاقية. ولا أستبعد تماما أن تؤثر بعض تلك التطورات على نظريات الأخلاق المعيارية أيضا أو حتى على رؤيتنا لماهية الأخلاق.

كذلك تتغير الأخلاق عمليا تبعا للنظام الاجتماعي والإداري والاقتصادي للمجتمعات وبما تقتضيه حاجات المجتمع.

الحاصل هو أن أهم مشكلة أخلاقية في كثير من الأديان أو المذاهب الدينية هي عدم مواكبتها للتطورات الاجتماعية والعلمية ومحاولة إيقاف عجلة التأريخ من الناحية الفكرية والأخلاقية، لكن يجب تجنب التعميم عند الحديث على أخلاقية أو لاأخلاقية الأديان والمذاهب الدينية حسب قبول تعاليمها للتطور، وكذلك الحكم على الأفراد اللادينيين وفقا للنظريات التي يرجحونها في ماهية الأخلاق ومعاييرها.

مصادر:
- The Elements of Moral Philosophy by James Rachels
- Why I Am Not a Christian: And Other Essays on Religion and Related Subjects by Bertrand Russell
- The History of Western Philosophy by Bertrand Russell: Book 3, Part 2, Nietzsche
Reciprocity / The Five Relationships Excerpt from the Analects
- Animal Liberation: A New Ethics for Our Treatment of Animals by Peter Singer
- Wikipedia:
Moral skepticism
J. L. Mackie
Richard Joyce

4 comment(s):

إظهار/إخفاء التعليق(ات)

إرسال تعليق

ملاحظة: يسمح بإعادة النشر بشرط ذكر الرابط المصدر أو إسم الكاتب