عرض مدونات الأديان من صنع الإنسان

28‏/04‏/2018

خواطر في الشك وحدوده

هل هناك حقيقة مؤكدة؟
هل هناك براهين أو أدلة يقينية على أي شيء؟
هل النظريات العلمية تعطينا حقائق؟

يشك الفلاسفة عادة في وجود دليل جازم على أن أي نظرية علمية ستبقى تنبؤاتها صحيحة ولن تتم تخطئتها أبدا.
النظريات العلمية مبنية على الاختبار، أو على الأقل هذا هو المفترض فيها، والاختبار يمكن أن يؤدي إلى جمع أدلة مؤيدة للنظرية، لكن يمكن أيضا أن يؤدي إلى تخطئتها وتعديلها بل ربما نقضها.

العلم يعتمد في كثير من استنتاجاته على الاستقراء، وهو الانتقال من الجزئيات إلى الكليات، وكما هو معروف من مشكلة الاستقراء Problem of induction التي قال بها دافيد هيوم (1711– 1776)، لا يمكن حسبها تبرير الآتي:

أولا: تعميم على خصائص صنف من العناصر بناء على مشاهدات محدودة لعناصر أُخرى من نفس الصنف.
مثال:
هذه البطة بيضاء
وتلك البطة بيضاء أيضا (كرر العملية واعثر على عدد محدد من البط الأبيض)
إذن كل البط أبيض

بينما يمكن العثور على بطة سوداء في مكان آخر أو في المستقبل لذا فهذا النوع من الاستدلال لا يفيد اليقين!

ثانيا: تعميم توابع الأحداث من زمن سابق على زمن لاحق وهو ما دعاه هيوم بانتظام الطبيعة
حيث يشك هيوم وكل من تبعه من الفلاسفة في حتمية السببية وبأن الطبيعة وقوانينها ثابتة لا تتغير، فهم يرون أن هذا لا يُعرف إلا بالاستقراء، بخلاف كانط الذي يرى أن السببية بديهية تتوسط بيننا وبين تجاربنا.

وكأن تشكيك هيوم لم يكن كافيا فجاء مؤرخ العلوم توماس كون بكتابه The Structure of Scientific Revolutions عام 1962 وطرح الإشكاليات التالية:

-Paradigm shift
وهو تبدل في مجموعة الافتراضات النظرية الأساسية التي يسلّم بصحتها المجتمع العلمي، ويحصل ذلك التبدل أثناء الثورات العلمية حصرا (مثل ما حصل بفعل أعمال كوبرنيكوس وداروين وآينشتاين مثلا).
تحصل تلك الثورات العلمية عند العجز عن حل كثير من الاشكاليات العلمية وفق مجموعة الافتراضات السابقة فيتم استبدال تلك المجموعة من الافتراضات بأُخرى جديدة.
اقترح كون أن الحقيقة العلمية ليست موضوعية بل نسبية إلى تلك المجموعة من الافتراضات paradigm، وله في ذلك حجتان:

1- Incommensurability
عدم إمكان المقارنة بين ال paradigms لعدم وجود لغة مشتركة ولا معايير مشتركة لفهم أو تقييم أكثر من paradigm.

2-Theory-ladenness of data
تأثير النظرية على البيانات مما يجعل إمكانية تفضيل نظرية على أُخرى بالاعتماد على البيانات أو المعلومات غير ممكنة.

ولكل ما ورد أعلاه يمكن القول أنه لا يمكن الجزم قطعا بصحة أي نظرية علمية عند أكثر الفلاسفة.

ولمن لا يقبل نظرية علمية أو شيئا على أنه حقيقة علمية يمكن أن يقدم أسبابه من خلال العلم أيضا. أي معارض لنظرية التطور مثلا يمكنه أن يسعى إلى تقديم نظرية تفسر ما فسرته نظرية التطور من مشاهدات وظواهر وأن تكون قابلة للاختبار على الأقل بدرجة مماثلة لنظرية التطور.

وإذا رفض الديني نظرية علمية لسبب فلا يصح له أن يحتج أو يؤمن بعلوم أُخرى، فمثلا رفض نظرية التطور يستلزم رفض عدد كبير من النظريات العلمية التي يؤمن بها الدينيون عادة وتم التوصل إليها بمنهجية مشابهة.

لكن ألا يمكن التفريق بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية؟
وإذا لم يمكننا القطع بصحة النظريات العلمية فهل هناك أي حقائق علمية تثبت خطأ معتقد ديني أو أي ادعاء آخر؟

في طريقهم لاختبار نظرياتهم يجمع العلماء كثيرا من الملاحظات والمشاهدات. أي نظرية لاحقة يجب أن تقدم تفسيرا لتلك المشاهدات أو لعدد كبير منها. وهناك فرق بين المشاهدات وبين النظرية التي تفسر تلك المشاهدات، فليس كل العلم مبنيا على الاستقراء بالضرورة.

يمكننا القول مثلا أن "الأرض كروية" حقيقة علمية لكون إثبات ذلك لا يحتاج إلى استقراء.
وربما يمكننا القول أن دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها حقيقة حتى لو تغيرت النظريات التي تفسر أسباب ذلك.


وأود أن أُشير إلى أهمية تجنب تعدد الافتراضات دون ضرورة فربما يكون ذلك التعدد مجرد محاولة لإصلاح الخطأ في الفرضية الاولى بالاستدراك عليها. لنأخذ ظاهرة التفسير الديني للكوارث الطبيعية كالزلازل:
زلزال ضرب "الكفار"
1- هذا عقاب من الله
زلزال ضرب المسلمين الملتزمين دينيا
2- هذا تكفير لذنوبهم
"كفار" لم تضربهم هزة أرضية
3- الله يؤخرهم إلى أجل مسمى
مسلمون ملتزمون لم تضربهم الهزة
4-  الله يحبهم وسيكفر ذنوبهم لكن هالمرة بدون زلازل وكلام فارغ
مسلمون غير ملتزمين ضربتهم الهزة
5-  ممكن تكفير ذنوب مثل 2 أو عقاب مثل 1، أو كوكتيل من الاثنين، والله أعلم

محاولة التفسير الديني هذه احتاجت إلى استدراك بمحاولة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة ربما لإصلاح الخلل في الادعاء الأول فضلا عن أن كل هذه المقترحات الدينية غير قابلة للإختبار بالطبع، لأن كل اختبار كان من الممكن أن يبطلها صار بنظر المدافعين عنها فرضية جديدة بحد ذاته.
مثلا بدل أن نختبر فرضية أن الكوارث الطبيعية عقاب لغير المؤمنين وإبطال الفرضية حين تصيب المؤمنين، جاءت فرضية جديدة لتفسر أن الكوارث تصيب المؤمنين أيضا وهي فرضية الاختبار أو تكفير الذنوب.

من هنا نفهم اهمية مبدأ موس اوكام والذي ينص على أنه بوجود أجوبة افتراضية متعددة لتفسير ظاهرة ما فإن الاختيار الصحيح يكون للتفسير الذي يقترح أقل عدد من الافتراضات.

وحتى لو لم يكن العلم قادرا على أن يعطينا حقائق، فإنه قد يكون الوسيلة الأقرب إلى الحقيقة من غيرها.

ولا يشك بعض الفلاسفة أو يختلفون في العلم فحسب بل في كل شيء تقريبا فهناك بعض الاختلافات بين الفلاسفة في تبرير المعرفة ولديهم شكوك في أُمور يؤمن بها الدينيون واللادينيون على حد سواء وبالتالي لا يمكن لطرف أن يحتج بتلك الشكوك والاختلافات على الآخر لأن تلك الشكوك لو ثبتت لبطلت حجة الطرفين.
مثال:
شك بعض الفلاسفة في وجود العالم الخارجي، حيث يتساءل بعضهم: ما أدرانا أننا لسنا في حلم نتخيل هذا العالم من حولنا فيه أو ربما نحن لسنا سوى أدمغة brains in a vat يقوم كمبيوتر بتغذيتها بمعلومات وإشارات تجعلها تحس وتتصور وجود العالم من حولها وبالشكل الذي نراه ونشعر به؟!!

أقول:
من أين أتى ذلك الكمبيوتر يا ترى؟
إذا كنا نشك فلماذا لا نشك في الشك ذاته الذي يجعلنا نفترض مثل تلك الفرضيات الخيالية؟

أخيرا العلم ليس هو الوسيلة الوحيدة لمحاولة إثبات أو نفي المزاعم. رأيي هو أن مبادئ الفكر وتحديدا مبدأ عدم التناقض يمكن أن يستخدم لتقديم البرهان على تناقض اُسس المعتقد الديني، وهذا هو موضوع المقال القادم.

هوامش
- Philosophy of Science: A Very Short Introduction, Samir Okasha, Oxford University Press
- Epistemology - Beginners Guides, Robert M. Martin
Problem of induction - Wikipedia

0 comment(s):

إرسال تعليق

ملاحظة: يسمح بإعادة النشر بشرط ذكر الرابط المصدر أو إسم الكاتب