يتفق جميع الإسلاميين على اختلاف وسائلهم على وجوب جعل القرآن والأحاديث الصحيحة عندهم المصدر الرئيسي للتشريع، ويدّعون أنهم يؤمنون بأن النصوص القرآنية صالحة لكل زمان ومكان رغم اعتمادهم للنسخ الذي يقتضي إزالة أو رفع حكم نصوص قرآنية، أي إنه لا يصح العمل عندهم بالنصوص القرآنية المنسوخة أو ببعضها مطلقا.
ومن المعلوم عدم قبول الإسلاميين بالديمقراطية التي تستند إلى أن الحاكمية للشعب وليست للإله وتقتضي قبول خيار الشعب حتى حين يكون مخالفا لما يعتبرونه حكم الله، أي حتى حين يكون مخالفا لحكم النصوص القرآنية والحديثية التي يعتمدون حكمها ويضيف كلهم تقريبا القياس والإجماع الذَين اخترعهما الاصوليون وزعموا لهما أدلة من القرآن والسنة، لكن ما هو التبرير الفقهي لبعض الإسلاميين المتظاهرين بالإعتدال لقبول تأجيل قتال الناس وفرض الحكم بنصوصهم الدينية بالقوة، واللجوء مؤقتا إلى الوسائل السلمية كالإنتخابات؟
هذا هو السؤال الذي نريد المساهمة في الإجابة عليه في هذا الموضوع.
إن جمهور فقهاء المسلمين يرون العمل بالنصوص المنسوخة باطل تماما، وأن النص اللاحق يبطل العمل للأبد بالنص السابق، وأن نصوص القتال قد نسخت نصوص البر والقسط وعدم العدوان، لذلك لا تفتقر الدول الإسلامية إلى الذين يحملون السلاح ويريدون تطبيق الشريعة مرة واحدة بالعنف والإرهاب كما هو حال التنظيمات الجهادية المختلفة.
لكن من جهة اخرى، هنالك من الإسلاميين من لا يرى أن بطلان العمل يشمل كل النصوص المنسوخة بل بعضها فقط، فهم يرون أن من أصناف النصوص المنسوخة ما نسخ حكمه لسبب يتعلق بالقدرة أو الإستطاعة فإن غابت القدرة على العمل بالنص الناسخ جاز العمل عندهم مؤقتا بذلك الصنف من النصوص المنسوخة تحديدا، ويضيف بعضهم وجود مصلحة كمبرر شرعي للعمل بذلك الصنف من النصوص المنسوخة، وهكذا يرون جواز العمل بنصوص البر والقسط وعدم العدوان بل حتى نصوص العفو والصفح عمن ظلم المسلمين وقت ضعف محمد وتأجيل القتال وفرض الشريعة بالقوة على الناس، لذا هم يتظاهرون بالقبول بالوسائل السلمية في بعض الحالات مؤقتا كما نرى من القبول الظاهري بالإحتكام إلى صناديق الإقتراع لدى بعض الإسلاميين المعاصرين في حالة توقع فوزهم.
هؤلاء يرون عدم القتال في وقت ضعفهم والعمل مؤقتا بنصوص السِّلم حتى تقوى شوكتهم فيعلنون عندها القتال ليقيموا الحدود ويفرضوا على غير المسلمين دفع الجزية وهم صاغرون (أي أذلاء محتقرون) ويقتلوا ويسبوا نساء من يرفض دفع الجزية وهو صاغر أو الدخول في الإسلام.
يقول القرطبي في تفسير "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" (الأنفال/ 61):
"قد اختلف في هذه الآية ، هل هي منسوخة أم لا . فقال قتادة وعكرمة : نسخها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . وقاتلوا المشركين كافة وقالا : نسخت " براءة " كل موادعة ، حتى يقولوا لا إله إلا الله . ابن عباس : الناسخ لها فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم [وأنتم الأعلون (محمد /35)]. وقيل : ليست بمنسوخة ، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية."
ويقول ابن عربي في أحكام القرآن في تفسيره للنصين في الأنفال ومحمد أعلاه:
"فإذا كان المسلمون على عزة ، وفي قوة ومنعة ، ومقانب عديدة ، وعدة شديدة : فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا ، وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم ، وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به ، أو ضر يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه ، وأن يجيبوا إذا دعوا إليه."
ومن المعاصرين المؤيدين للعمل بآيات السلم لمن لا يملك القدرة على القتال في وقت أو مكان ما أو حتى عند وجود مصلحة بعدم اللجوء إلى القتال، ياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية في مصر والتي حصل أتباعها في الإنتخابات الأخيرة على حوالي ربع مقاعد مجلس الشعب المصري المنحل، حيث يذكر في محاضرة أنه ممن يذهب إلى عدم القتال في حالة عدم الإستطاعة كما ذهب إلى ذلك ابن تيمية والزركشي كما أيد ذلك ابن كثير في تفسيره، وذلك موجود في شريط صوتي له بعنوان "فقه الجهاد في سبيل الله – هل مراحل الجهاد منسوخة؟" منشور في موقع "صوت السلف" الذي يشرف عليه وكذلك موقع طريق الإسلام، حيث يؤكد فيها دعمه لهذا القول.
أدناه مقتطفات من بعض ما ذكره برهامي في المحاضرة التي ألقاها والمنشورة في موقع صوت السلف وموقع طريق الإسلام:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول ص221:
"فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الذين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوه الجزية عن يد وهم صاغرون.
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)(الأنفال:61)، وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء والخراساني وعكرمة والحسن وقتادة أن الآية منسوخة بآية السيف في براءة (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ)(التوبة:29)، وفيه نظر، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك فأما إذا كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص، والله أعلم.."
ويضيف:
"قال الزركشي -رحمه الله-: "قسم بعضهم النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب... الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب: كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر والمغفرة للذين لا يرجون لقاء الله، ونحوه مِن عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، ونحوها، ثم نسَخَهُ إيجاب ذلك، وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنما هو نسء كما قال -تعالى-: (أَوْ نُنسِهَا) (البقرة:106)، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفى حالة الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبهذا التحقيق تَبيَّن ضعف ما لهج به كثير مِن المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف وليست كذلك، بل هي من المُنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر" (البرهان:2/42)."
ويخلص برهامي إلى التالي:
"والحقيقة أن الخلاف بين الفريقين خلاف لفظي لا حقيقة له، إذ مصطلح النسخ عند السلف يشمل التقييد والتخصيص، وبيان الإجمال، كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام "ابن تيمية" في "الإكليل"، فالجميع متفق على أنه لا يكلف المستضعف -"الذي يشبه حاله حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمسلمين بمكة"- ما لا طاقة له به مِن القتال، وقد سبق الزركشي غيره مِن أهل العلم بذلك." ..... ثم يقول:
"حتى لو قلنا الصبر والصفح والعفو منسوخ والقتال واجب فهو واجب في حق القادر عليه والعاجز عنه لا يوصف في حقه بوجوب"
قلت:
قد وضحت تناقض النصوص القرآنية في مسألة القتال وعدم إمكان الجمع بينها في النقطة السادسة من موضوع من إشكاليات البداء والنسخ والقتال في القرآن، لكن لسان حال هؤلاء يقول إن نبيهم كان يأمر بالبرّ والقسط مع غير المسلمين ما لم يعادوا المسلمين ليس حبا منه في العدل والقسط والخير بل كان يتظاهر بذلك لضعفه ثم ظهر على حقيقته حين أصبح قويا فبدأ يدعوا عندئذ إلى قتال الناس جميعا حتى يدفعوا الجزية وهم صاغرون أو يدخلوا الإسلام، وإلا فإن حكمهم القتل!
أي إن اشتراط بعض النصوص القرآنية القتال بالدفاع عن النفس (بأنهم ظـُلِموا.... اخرجوا من ديارهم بغير حق) (الحج/ 39-40) وأن الله لا ينهاهم "عن الذين لم يقاتلوهم في الدين" ولم يخرجوهم من ديارهم أن يبروهم ويقسطوا إليهم معللا ذلك بأنه يحب المقسطين (الممتحنة /8) قد تم إلغائه في حالة القوة وما داموا أقوياء، فإذا عادوا ضعفاء عادوا للتظاهر بأنهم لا يقاتلون أو أنهم لا يقاتلون إلا دفاعا عن النفس لأنهم ظـُلِموا حتى تحين الفرصة للعودة إلى قتال الناس.
هذه هي طريقتهم في محاولة التوفيق بين النصوص المتعارضة في القرآن فيما يتعلق بالبر والقسط والصبر من جهة وقتال الناس من جهة ثانية.
وتجدر الإشارة إلى أن حديث "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" الذي يستدل به بعضهم للتعامل مع من يدعونهم "أهل الذمة" هو حديث باطل لا أصل له كما قال الألباني في السلسلة الضعيفة والموضوعة،كما أن حديث "من آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة" أو "... فقد آذاني" ضعيف، وقد يكون ذكر مثل هذه الأحاديث مجرد شعارات مرحلية أيضا حتى يعملوا بالنصوص الناسخة التي ذكرناها.
ومتون هذه الأحاديث تخالف أحاديث صحيحة السند عندهم تؤكد التفرقة بين المسلم والكافر مثل حديث "لا يقتل المسلم بالكافر" أو تأمر بإيذاء غير المسلمين كحديث "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا رأيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" مما يبين أن تلك الأحاديث شاذة أو منكرة، كما أن القرآن قد أمر في سورة التوبة بقتال "الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (التوبة/29)"، وكلنا نعلم أن القتال أو فرض الصَّغار وكذلك التفرقة بين دم المسلم وغيره واضطرار أهل الكتاب إلى أضيق الطريق من أبلغ ما يكون من الأذى والظلم والإنتقاص مما يناقض حديث "من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا خصمه يوم القيامة".
ولا تستغربوا إن وجدتم من رأى صحة أو حسن سند هذا الحديث الأخير يحاول التوفيق بينه وبين النصوص الحديثية والقرآنية الاُخرى فيأتي بكلام متناقض فيحاول الجمع بين منع الظلم وبين التفريق بين دم المسلم وغيره، أو بين وجوب الصَّغار على غير المسلمين واضطرارهم إلى أضيق الطريق من جهة وبين عدم جواز انتقاصهم من جهة ثانية!
ولكل من يقتبس لكم من الإسلاميين المتظاهرين بالتسامح والإعتدال هذا الحديث الأخير، اسألوهم الأسئلة التالية:
أليس أخذ الجزية من غير المسلمين كشرط لوقف قتالهم هو أخذ شيء منهم بغير طيب نفس؟
وأيضا أليس فرض الصَّغار وتضييق الطرقات عليهم انتقاصا وظلما؟
أليست التفرقة بين دم المسلم وغيره بأن يقتل الكافر بالمسلم بينما لا يقتل المسلم بالكافر كذلك انتقاصا وظلما؟
لا تستغربوا إن كان الجواب عن الأسئلة السابقة بـ(لا)، فكل همهم التوفيق بين الأحاديث المتعارضة الثابتة عندهم أو قد تكون غير ثابتة عندهم أصلا ويروونها لمجرد التظاهر بالتسامح فإن جمهور أهل السنة يهتمون بجودة سند الحديث فقط لأحاديث الأحكام ويجوّزون رواية الروايات الضعيفة فيما سوى الأحكام كالسيرة والوعظ. قال أحمد بن حنبل "إذا روينا عن النبي (ص) في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عنه في فضائل الأعمال وما لا يضع حكمًا ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد"، فالإسلام الذي يريد الإسلاميون وضع القوانين بموجبه شيء والروايات التي يستخدمها بعضهم للدعاية للإسلام شيء آخر فيجب التنبه لذلك ومراجعة سند الأحاديث والرويات التأريخية الجميلة التي تستخدم للدعاية للإسلام من قِـبَل الدعاة والسياسيين الإسلاميين الذين يتمادى كثير منهم في التبجح بروايات موضوعة لا أصل لها لخدمة غرضهم في تجميل الإسلام أو التأريخ الإسلامي أو الحكم بنصوص القرآن والحديث.
ومن أمثلة محاولات التجميل تلك وكما أشرت سابقا إلى أن القول المروي عن عمر (مذ كم استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا) لا أصل له وهو مخالف لاتفاق فقهاء المسلمين في استعباد ابن الأمة لغير سيدها، و قول (عدلت فأمنت فنمت) في وصف عمر لا إسناد له، و قصة محمد مع اليهودي الذي كان يؤذيه فمرض فعاده محمد، لا أصل لها.. وغيرها الكثير..
نفهم من كل ما تقدم في الموضوع أن الوسائل السلمية لتطبيق الشريعة تدريجيا جائزة عند بعض الإسلاميين فقط عند عدم إمكانية فرضها كاملة ومباشرة بالقوة، لذا الواجب عدم الثقة بالإسلاميين مطلقا، فهدفهم واحد وهو فرض الشريعة الإسلامية كاملة ومنها إقامة الحدود وأخذ الجزية من غير المسلمين وهم صاغرون، وقتلهم إن رفضوا دفعها، فهم لا يرون أن ذلك ظلما لتعاميهم عن ذلك باتباع النصوص، وكل ما يرفعونه ويروونه سوى ذلك هو إما أحاديث ورويات ضعيفة لا يؤمنون بها أصلا أو لها ما يناقضها مما هو أصح منها عندهم وتستخدم تلك الروايات كشعارات في محاولة لتجميل إسلامهم في أعين الناس إلى أن يأتي اليوم الذي يستطيعون فيه فرض كل ما يريدون من قتل وجلد ورجم وإذلال للآخرين أو إبادتهم وسبي نسائهم.
هوامش
موقع صوت السلف - حول تعليق "د. ياسر" في مسألة الجزية – رد ياسر برهامي
موقع طريق الإسلام- فقه الجهاد في سبيل الله - هل مراحل الجهاد منسوخة ؟، ياسر برهامي
ملتقى أهل الحديث – لهم ما لنا وعليهم ما علينا
صيد الفوائد - بحث في تخريج حديث : " مــن آذى ذمــيــا ... "
ملتقى أهل الحديث - أقوال العلماء في حديث (( من آذى ذمياً فقد آذاني ))
منتدى شبكة سحاب السلفية- قصص مشهورة لا تثبت عن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه
موقع الدرر الحديثية
ومن المعلوم عدم قبول الإسلاميين بالديمقراطية التي تستند إلى أن الحاكمية للشعب وليست للإله وتقتضي قبول خيار الشعب حتى حين يكون مخالفا لما يعتبرونه حكم الله، أي حتى حين يكون مخالفا لحكم النصوص القرآنية والحديثية التي يعتمدون حكمها ويضيف كلهم تقريبا القياس والإجماع الذَين اخترعهما الاصوليون وزعموا لهما أدلة من القرآن والسنة، لكن ما هو التبرير الفقهي لبعض الإسلاميين المتظاهرين بالإعتدال لقبول تأجيل قتال الناس وفرض الحكم بنصوصهم الدينية بالقوة، واللجوء مؤقتا إلى الوسائل السلمية كالإنتخابات؟
هذا هو السؤال الذي نريد المساهمة في الإجابة عليه في هذا الموضوع.
إن جمهور فقهاء المسلمين يرون العمل بالنصوص المنسوخة باطل تماما، وأن النص اللاحق يبطل العمل للأبد بالنص السابق، وأن نصوص القتال قد نسخت نصوص البر والقسط وعدم العدوان، لذلك لا تفتقر الدول الإسلامية إلى الذين يحملون السلاح ويريدون تطبيق الشريعة مرة واحدة بالعنف والإرهاب كما هو حال التنظيمات الجهادية المختلفة.
لكن من جهة اخرى، هنالك من الإسلاميين من لا يرى أن بطلان العمل يشمل كل النصوص المنسوخة بل بعضها فقط، فهم يرون أن من أصناف النصوص المنسوخة ما نسخ حكمه لسبب يتعلق بالقدرة أو الإستطاعة فإن غابت القدرة على العمل بالنص الناسخ جاز العمل عندهم مؤقتا بذلك الصنف من النصوص المنسوخة تحديدا، ويضيف بعضهم وجود مصلحة كمبرر شرعي للعمل بذلك الصنف من النصوص المنسوخة، وهكذا يرون جواز العمل بنصوص البر والقسط وعدم العدوان بل حتى نصوص العفو والصفح عمن ظلم المسلمين وقت ضعف محمد وتأجيل القتال وفرض الشريعة بالقوة على الناس، لذا هم يتظاهرون بالقبول بالوسائل السلمية في بعض الحالات مؤقتا كما نرى من القبول الظاهري بالإحتكام إلى صناديق الإقتراع لدى بعض الإسلاميين المعاصرين في حالة توقع فوزهم.
هؤلاء يرون عدم القتال في وقت ضعفهم والعمل مؤقتا بنصوص السِّلم حتى تقوى شوكتهم فيعلنون عندها القتال ليقيموا الحدود ويفرضوا على غير المسلمين دفع الجزية وهم صاغرون (أي أذلاء محتقرون) ويقتلوا ويسبوا نساء من يرفض دفع الجزية وهو صاغر أو الدخول في الإسلام.
يقول القرطبي في تفسير "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" (الأنفال/ 61):
"قد اختلف في هذه الآية ، هل هي منسوخة أم لا . فقال قتادة وعكرمة : نسخها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . وقاتلوا المشركين كافة وقالا : نسخت " براءة " كل موادعة ، حتى يقولوا لا إله إلا الله . ابن عباس : الناسخ لها فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم [وأنتم الأعلون (محمد /35)]. وقيل : ليست بمنسوخة ، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية."
ويقول ابن عربي في أحكام القرآن في تفسيره للنصين في الأنفال ومحمد أعلاه:
"فإذا كان المسلمون على عزة ، وفي قوة ومنعة ، ومقانب عديدة ، وعدة شديدة : فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا ، وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم ، وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به ، أو ضر يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه ، وأن يجيبوا إذا دعوا إليه."
ومن المعاصرين المؤيدين للعمل بآيات السلم لمن لا يملك القدرة على القتال في وقت أو مكان ما أو حتى عند وجود مصلحة بعدم اللجوء إلى القتال، ياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية في مصر والتي حصل أتباعها في الإنتخابات الأخيرة على حوالي ربع مقاعد مجلس الشعب المصري المنحل، حيث يذكر في محاضرة أنه ممن يذهب إلى عدم القتال في حالة عدم الإستطاعة كما ذهب إلى ذلك ابن تيمية والزركشي كما أيد ذلك ابن كثير في تفسيره، وذلك موجود في شريط صوتي له بعنوان "فقه الجهاد في سبيل الله – هل مراحل الجهاد منسوخة؟" منشور في موقع "صوت السلف" الذي يشرف عليه وكذلك موقع طريق الإسلام، حيث يؤكد فيها دعمه لهذا القول.
أدناه مقتطفات من بعض ما ذكره برهامي في المحاضرة التي ألقاها والمنشورة في موقع صوت السلف وموقع طريق الإسلام:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول ص221:
"فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الذين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوه الجزية عن يد وهم صاغرون.
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)(الأنفال:61)، وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء والخراساني وعكرمة والحسن وقتادة أن الآية منسوخة بآية السيف في براءة (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ)(التوبة:29)، وفيه نظر، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك فأما إذا كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص، والله أعلم.."
ويضيف:
"قال الزركشي -رحمه الله-: "قسم بعضهم النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب... الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب: كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر والمغفرة للذين لا يرجون لقاء الله، ونحوه مِن عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، ونحوها، ثم نسَخَهُ إيجاب ذلك، وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنما هو نسء كما قال -تعالى-: (أَوْ نُنسِهَا) (البقرة:106)، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفى حالة الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبهذا التحقيق تَبيَّن ضعف ما لهج به كثير مِن المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف وليست كذلك، بل هي من المُنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر" (البرهان:2/42)."
ويخلص برهامي إلى التالي:
"والحقيقة أن الخلاف بين الفريقين خلاف لفظي لا حقيقة له، إذ مصطلح النسخ عند السلف يشمل التقييد والتخصيص، وبيان الإجمال، كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام "ابن تيمية" في "الإكليل"، فالجميع متفق على أنه لا يكلف المستضعف -"الذي يشبه حاله حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمسلمين بمكة"- ما لا طاقة له به مِن القتال، وقد سبق الزركشي غيره مِن أهل العلم بذلك." ..... ثم يقول:
"حتى لو قلنا الصبر والصفح والعفو منسوخ والقتال واجب فهو واجب في حق القادر عليه والعاجز عنه لا يوصف في حقه بوجوب"
قلت:
قد وضحت تناقض النصوص القرآنية في مسألة القتال وعدم إمكان الجمع بينها في النقطة السادسة من موضوع من إشكاليات البداء والنسخ والقتال في القرآن، لكن لسان حال هؤلاء يقول إن نبيهم كان يأمر بالبرّ والقسط مع غير المسلمين ما لم يعادوا المسلمين ليس حبا منه في العدل والقسط والخير بل كان يتظاهر بذلك لضعفه ثم ظهر على حقيقته حين أصبح قويا فبدأ يدعوا عندئذ إلى قتال الناس جميعا حتى يدفعوا الجزية وهم صاغرون أو يدخلوا الإسلام، وإلا فإن حكمهم القتل!
أي إن اشتراط بعض النصوص القرآنية القتال بالدفاع عن النفس (بأنهم ظـُلِموا.... اخرجوا من ديارهم بغير حق) (الحج/ 39-40) وأن الله لا ينهاهم "عن الذين لم يقاتلوهم في الدين" ولم يخرجوهم من ديارهم أن يبروهم ويقسطوا إليهم معللا ذلك بأنه يحب المقسطين (الممتحنة /8) قد تم إلغائه في حالة القوة وما داموا أقوياء، فإذا عادوا ضعفاء عادوا للتظاهر بأنهم لا يقاتلون أو أنهم لا يقاتلون إلا دفاعا عن النفس لأنهم ظـُلِموا حتى تحين الفرصة للعودة إلى قتال الناس.
هذه هي طريقتهم في محاولة التوفيق بين النصوص المتعارضة في القرآن فيما يتعلق بالبر والقسط والصبر من جهة وقتال الناس من جهة ثانية.
وتجدر الإشارة إلى أن حديث "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" الذي يستدل به بعضهم للتعامل مع من يدعونهم "أهل الذمة" هو حديث باطل لا أصل له كما قال الألباني في السلسلة الضعيفة والموضوعة،كما أن حديث "من آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة" أو "... فقد آذاني" ضعيف، وقد يكون ذكر مثل هذه الأحاديث مجرد شعارات مرحلية أيضا حتى يعملوا بالنصوص الناسخة التي ذكرناها.
ومتون هذه الأحاديث تخالف أحاديث صحيحة السند عندهم تؤكد التفرقة بين المسلم والكافر مثل حديث "لا يقتل المسلم بالكافر" أو تأمر بإيذاء غير المسلمين كحديث "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا رأيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" مما يبين أن تلك الأحاديث شاذة أو منكرة، كما أن القرآن قد أمر في سورة التوبة بقتال "الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (التوبة/29)"، وكلنا نعلم أن القتال أو فرض الصَّغار وكذلك التفرقة بين دم المسلم وغيره واضطرار أهل الكتاب إلى أضيق الطريق من أبلغ ما يكون من الأذى والظلم والإنتقاص مما يناقض حديث "من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا خصمه يوم القيامة".
ولا تستغربوا إن وجدتم من رأى صحة أو حسن سند هذا الحديث الأخير يحاول التوفيق بينه وبين النصوص الحديثية والقرآنية الاُخرى فيأتي بكلام متناقض فيحاول الجمع بين منع الظلم وبين التفريق بين دم المسلم وغيره، أو بين وجوب الصَّغار على غير المسلمين واضطرارهم إلى أضيق الطريق من جهة وبين عدم جواز انتقاصهم من جهة ثانية!
ولكل من يقتبس لكم من الإسلاميين المتظاهرين بالتسامح والإعتدال هذا الحديث الأخير، اسألوهم الأسئلة التالية:
أليس أخذ الجزية من غير المسلمين كشرط لوقف قتالهم هو أخذ شيء منهم بغير طيب نفس؟
وأيضا أليس فرض الصَّغار وتضييق الطرقات عليهم انتقاصا وظلما؟
أليست التفرقة بين دم المسلم وغيره بأن يقتل الكافر بالمسلم بينما لا يقتل المسلم بالكافر كذلك انتقاصا وظلما؟
لا تستغربوا إن كان الجواب عن الأسئلة السابقة بـ(لا)، فكل همهم التوفيق بين الأحاديث المتعارضة الثابتة عندهم أو قد تكون غير ثابتة عندهم أصلا ويروونها لمجرد التظاهر بالتسامح فإن جمهور أهل السنة يهتمون بجودة سند الحديث فقط لأحاديث الأحكام ويجوّزون رواية الروايات الضعيفة فيما سوى الأحكام كالسيرة والوعظ. قال أحمد بن حنبل "إذا روينا عن النبي (ص) في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عنه في فضائل الأعمال وما لا يضع حكمًا ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد"، فالإسلام الذي يريد الإسلاميون وضع القوانين بموجبه شيء والروايات التي يستخدمها بعضهم للدعاية للإسلام شيء آخر فيجب التنبه لذلك ومراجعة سند الأحاديث والرويات التأريخية الجميلة التي تستخدم للدعاية للإسلام من قِـبَل الدعاة والسياسيين الإسلاميين الذين يتمادى كثير منهم في التبجح بروايات موضوعة لا أصل لها لخدمة غرضهم في تجميل الإسلام أو التأريخ الإسلامي أو الحكم بنصوص القرآن والحديث.
ومن أمثلة محاولات التجميل تلك وكما أشرت سابقا إلى أن القول المروي عن عمر (مذ كم استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا) لا أصل له وهو مخالف لاتفاق فقهاء المسلمين في استعباد ابن الأمة لغير سيدها، و قول (عدلت فأمنت فنمت) في وصف عمر لا إسناد له، و قصة محمد مع اليهودي الذي كان يؤذيه فمرض فعاده محمد، لا أصل لها.. وغيرها الكثير..
نفهم من كل ما تقدم في الموضوع أن الوسائل السلمية لتطبيق الشريعة تدريجيا جائزة عند بعض الإسلاميين فقط عند عدم إمكانية فرضها كاملة ومباشرة بالقوة، لذا الواجب عدم الثقة بالإسلاميين مطلقا، فهدفهم واحد وهو فرض الشريعة الإسلامية كاملة ومنها إقامة الحدود وأخذ الجزية من غير المسلمين وهم صاغرون، وقتلهم إن رفضوا دفعها، فهم لا يرون أن ذلك ظلما لتعاميهم عن ذلك باتباع النصوص، وكل ما يرفعونه ويروونه سوى ذلك هو إما أحاديث ورويات ضعيفة لا يؤمنون بها أصلا أو لها ما يناقضها مما هو أصح منها عندهم وتستخدم تلك الروايات كشعارات في محاولة لتجميل إسلامهم في أعين الناس إلى أن يأتي اليوم الذي يستطيعون فيه فرض كل ما يريدون من قتل وجلد ورجم وإذلال للآخرين أو إبادتهم وسبي نسائهم.
هوامش
موقع صوت السلف - حول تعليق "د. ياسر" في مسألة الجزية – رد ياسر برهامي
موقع طريق الإسلام- فقه الجهاد في سبيل الله - هل مراحل الجهاد منسوخة ؟، ياسر برهامي
ملتقى أهل الحديث – لهم ما لنا وعليهم ما علينا
صيد الفوائد - بحث في تخريج حديث : " مــن آذى ذمــيــا ... "
ملتقى أهل الحديث - أقوال العلماء في حديث (( من آذى ذمياً فقد آذاني ))
منتدى شبكة سحاب السلفية- قصص مشهورة لا تثبت عن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه
موقع الدرر الحديثية
12 comment(s):
الكونييت هناك كائنات فضائيه ذكيه جدا او مجتمعات كائنات فضائيه تعيش في احدى الكواكب السموايه لها اجساد مختلفه وحركه ضوئيه ولا نستطيع روئيتها بالعين البشريه هم مثل الملائكه باجسادهم وحركتهم واعماره وتناسلهم ومعيشتهم نزلوا الى كوكب الارض واجروا تجارب مختبريه لصناعة البشر من ذكر و انثى للتناسل والاستمرار وكذلك هناك كائنات فضائيه اخرى صنعت الحيوانات على انواعها البريه والمائيه الهوائيه وكذلك هناك كائنات فضائيه اخرى صنعت النباتات بانواعها البريه والنهريه و الهوائيه وكذلك هناك كائنات فضائيه اخرى وهذه الكائنات الفضائيه الذكيه وفرت بيئه معيشيه متكامله للبشر والحيوان و النبات والحشرات الخ ونطللق على هذه الكائنات المسالمه او الصديقه اسم الملائكه او الاله او الالهه وهناك كائنات فضائيه ذكيه لكنها عدائيه نطلق عليها الجن او الشياطيين وهي صنعت الحشرات الضاره والحيوانات المفترسه والبكتريا الضاره والفايروسات والجراثيم والامراض وكان هناك حروب كونيه او فضائيه بين الكائنات الفضائيه لكنها حروب علميه طبيه وليست حروب الاسلحه والقنابل والصواريخ
Cosmic : There are extraterrestrials aliens very smart sane or communities extraterrestrials live in one of the planets in the Universe space have different bodies and their movement same light speed and we cannot vision them by our human eye they are like an angels with their bodies and their movement and reconstruction and Breeding and livelihoods they visited our earth and conducted laboratory experiments to creates Human on earth planet of Male and Female for breeding and to continuity and also there are another extraterrestrials aliens conducted laboratory experiments to creates all kinds of animals types at land and water and air also there are another extraterrestrials aliens made plants of all kinds such as at land and water and air also these extraterrestrials aliens provided living environment integrated for humans and animals, plants and insects etc. and we called these aliens as peaceful or friendly name such as Angels or God or Gods and also there are an extraterrestrial intelligent aliens but so hostile and we called them jennies or bad sprits which made a harmful insects and predators and harmful bacteria and viruses, germs and diseases etc and its shows there were a wars between the space aliens, but Scientific Medical wars and not likes our destructive wars weapons, bombs and missiles Wars
My email awaiting ur reply plz
Samy120406@gmail.com
عمل جيد جدا...
يمكنك الحصول على معلومات اكثر بخصوص هذا الموضوع على الرابط التالي
مقالات من هنا وهناك
تقبل أجمل تحية
يقول الله تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (1).
إن هذا البيان القرآنى بإطاره الواسع الكبير ، الذى يشمل المكان كله فلا يختص بمكان دون مكان ، والزمان بأطواره المختلفة وأجياله المتعاقبة فلا يختص بزمان دون زمان ، والحالات كلها سلمها وحربها فلا يختص بحالة دون حالة ، والناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم عربهم وعجمهم فلا يختص بفئة دون فئة ؛ ليجعل الإنسان مشدوها متأملاً فى عظمة التوصيف القرآنى لحقيقة نبوة سيد الأولين والآخرين ، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) رحمة عامة شاملة ، تجلت مظاهرها فى كل موقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه الكون والناس من حوله.
والجهاد فى الإسلام حرب مشروعة عند كل العقلاء من بنى البشر ، وهى من أنقى أنواع الحروب من جميع الجهات:
1- من ناحية الهدف.
2- من ناحية الأسلوب.
3- من ناحية الشروط والضوابط.
4- من ناحية الإنهاء والإيقاف.
5- من ناحية الآثار أو ما يترتب على هذه الحرب من نتائج.
وهذا الأمر واضح تمام الوضوح فى جانبى التنظير والتطبيق فى دين الإسلام وعند المسلمين.
وبالرغم من الوضوح الشديد لهذه الحقيقة ، إلا أن التعصب والتجاهل بحقيقة الدين الإسلامى الحنيف ، والإصرار على جعله طرفاً فى الصراع وموضوعاً للمحاربة ، أحدث لبساً شديداً فى هذا المفهوم ـ مفهوم الجهاد ـ عند المسلمين ، حتى شاع أن الإسلام قد انتشر بالسيف ، وأنه يدعو إلى الحرب وإلى العنف ، ويكفى فى الرد على هذه الحالة من الافتراء ، ما أمر الله به من العدل والإنصاف ، وعدم خلط الأوراق ، والبحث عن الحقيقة كما هى ، وعدم الافتراء على الآخرين ، حيث قال سبحانه فى كتابه العزيز: (لِمَ تَلبِسُونَ الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) (2).
ولقد فطن لبطلان هذا الادعاء كاتب غربى كبير هو توماس كارليل ، حيث قال فى كتابه " الأبطال وعبادة البطولة " ما ترجمته: " إن اتهامه ـ أى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ بالتعويل على السيف فى حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم ؛ إذ ليس مما يجوز فى الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس ، أو يستجيبوا له ، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم ، فقد آمنوا به طائعين مصدقين ، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها " (3).
ويقول المؤرخ الفرنسى غوستاف لوبون فى كتابه " حضارة العرب " وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام فى عهده صلى الله عليه وسلم وفى عصور الفتوحات من بعده ـ: " قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة ، ولم ينتشر الإسلام إذن بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها ، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التى قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول ، وبلغ القرآن من الانتشار فى الهند ـ التى لم يكن العرب فيها غير عابرى سبيل ـ ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليون نفس فيها.. ولم يكن الإسلام أقل انتشاراً فى الصين التى لم يفتح العرب أى جزء منها قط ، وسترى فى فصل آخر سرعة الدعوة فيها ، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا فى الوقت الحاضر " (4).
هذا وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عاماً ، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وقد كان نتاج هذه المرحلة أن دخل فى الإسلام خيار المسلمين من الأشراف وغيرهم ، وكان الداخلون أغلبهم من الفقراء ، ولم يكن لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثروة عظيمة يغرى بها هؤلاء الداخلين ، ولم يكن إلا الدعوة ، والدعوة وحدها ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تحمَّل المسلمون ـ لاسيما الفقراء والعبيد ومن
لا عصبية له منهم ـ من صنوف العذاب وألوان البلاء ما تعجز الجبال الرواسى عن تحمله ، فما صرفهم ذلك عن دينهم وما تزعزعت عقيدتهم ، بل زادهم ذلك صلابة فى الحق ، وصمدوا صمود الأبطال مع قلتهم وفقرهم ، وما سمعنا أن أحداً منهم ارتدّ سخطاً عن دينه ، أو أغرته مغريات المشركين فى النكوص عنه ، وإنما كانوا كالذهب الإبريز لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء ، وسنتكلم هنا على الجانبين التنظيرى والتطبيقى ، ونقصد بالتنظيرى ما ورد فى مصادر الإسلام (الكتاب والسنة) ، ونعنى بالتطبيقى ما حدث عبر القرون ابتداء من الحروب التى شارك فيها النبى صلى الله عليه وسلم ، وانتهاء بعصرنا الحاضر ، ثم نختم ببيان هذه النقاط الخمسة التى ذكرناها سابقاً.
أولاً: الجانب التنظيرى
ورد فى القرآن الكريم وفى السنة النبوية آيات وأحاديث تبين شأن الجهاد فى الإسلام ، ويرى المطالع لهذه الآيات والأحاديث ، أن المجاهد فى سبيل الله ، هو ذلك الفارس النبيل الأخلاقى المدرب على أخلاق الفروسية العالية الراقية ؛ حتى يستطيع أن يمتثل إلى الأوامر والنواهى الربانية التى تأمره بضبط النفس قبل المعركة وأثناء المعركة وبعد المعركة ، فقبل المعركة يجب عليه أن يحرر نفسه من كل الأطماع ، وألا يخرج مقاتلا من أجل أى مصلحة شخصية ، سواء كانت تلك المصلحة من أجل نفسه أو من أجل الطائفة التى ينتمى إليها ، أو من أجل أى عرض دنيوى آخر ، وينبغى أن يتقيد بالشروط التى أحل الله فيها الجهاد ، وأن يجعل ذلك لوجه الله تعالى ، ومعنى هذا أنه سوف يلتزم بأوامر الله ، ويستعد لإنهاء الحرب فوراً ، إذا ما فقدت الحرب شرطاً من شروط حلها أو سبباً من أسباب استمرارها ، وسواء أكان ذلك الفارس منتصراً ، أو أصابه الأذى من عدوه ، فإن الله يأمره بضبط النفس ، وعدم تركها للانتقام ، والتأكيد على الالتزام بالمعانى العليا ، وكذلك الحال بعد القتال ، فإنه يجب عليه أن يجاهد نفسه الجهاد الأكبر ؛ حتى لا يتحول الفارس المجاهد إلى شخصٍ مؤذٍ لمجتمعه أو لجماعته أو للآخرين ، وبالرغم من أن لفظة الجهاد إذا أطلقت انصرف الذهن إلى معنى القتال فى سبيل الله. إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أسماه بالجهاد الأصغر ، وسمى الجهاد المستمر بعد القتال بالجهاد الأكبر ؛ لأن القتال يستمر ساعات أو أيام ، وما بعد القتال يستغرق عمر الإنسان كله.
وفيما يلى نورد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى تحدثت عن هذه القضية ، ثم بعد ذلك نستخرج منها الأهداف والشروط والضوابط والأساليب ، ونعرف منها متى تنتهى الحرب ، والآثار المترتبة على ذلك:
أولاً: القرآن الكريم:
1- (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) (5).
2- (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) (6).
3
- (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (7).
4- (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) (8).
5- (وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ) (9).
6- (ولا تحسبن الذين قُتِلُوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يُرْزَقُون ) (10).
7- (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ) (11).
8- (فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل فى سبيل الله فيُقتل أو يَغِلب فسوف نؤتيه أجرا عظيماً ) (12).
9- (وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيراً ) (13).
10- (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ) (14).
11- (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولوكره المجرمون ) (15).
12- (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) (16).
13- (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) (17).
14 (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط) (18).
15- (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ) (19).
16- (يا أيها النبى قل لمن فى أيديكم من الأسرى إن يعلم الله فى قلوبكم خيرا يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ) (20).
17- (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم * وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) (21).
18- (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فَيَقتُلُون وَيُقتَلُون ) (22).
19- (أُذِنَ للذين يُقَاتَلُون بأنهم ظُلِمُوا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخْرِجُوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا رَبُّنَا الله) (23).
ثانياً: الأحاديث النبوية الشريفة:
1- عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " تكفل الله لمن جاهد فى سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد فى سبيله وتصديق كلمته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذى خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة " (24).
2- عن وهب بن منبه ، قال: سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت ، قال: اشترطت على النبى صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد ، وأنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: " سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا " (25).
3- عن سعد بن زيد بن سعد الأشهلى أنه أهدى إلى رسول صلى الله عليه وسلم سيفاً من نجران فلما قدم عليه أعطاه محمد بن مسلمة ، وقال: " جاهد بهذا فى سبيل الله فإذا اختلفت أعناق الناس فاضرب به الحجر ، ثم ادخل بيتك وكن حلساً ملقى حتى تقتلك يد خاطئة أو تأتيك منية قاضية. قال الحاكم: فبهذه الأسباب وما جانسها كان اعتزال من اعتزل عن القتال مع على ـ رضى الله عنه ـ وقتال من قاتله " (26).
4- عن سعيد بن جبير قال: " خرج علينا أو إلينا ابن عمر فقال رجل كيف ترى فى قتال الفتنة فقال وهل تدرى ما الفتنة كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة وليس كقتالكم على الملك " (27).
5- عن عبد الله بن عمرو ـ رضى الله عنهما ـ قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: إنى أريد الجهاد فقال: " أحى والداك ؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد " (28).
ويتضح من هذه الآيات والأحاديث أن هدف الحرب فى الإسلام يتمثل فى الآتى:
1- رد العدوان والدفاع عن النفس.
2- تأمين الدعوة إلى الله وإتاحة الفرصة للضعفاء الذين يريدون اعتناقها.
3- المطالبة بالحقوق السليبة.
4- نصرة الحق والعدل.
ويتضح لنا أيضا أن من شروط وضوابط الحرب:
(1) النبل والوضوح فى الوسيلة والهدف.
(2) لا قتال إلا مع المقاتلين ولا عدوان على المدنيين.
(3) إذا جنحوا للسلم وانتهوا عن القتال فلا عدوان إلا على الظالمين.
(4) المحافظة على الأسرى ومعاملتهم المعاملة الحسنة التى تليق بالإنسان.
(5) المحافظة على البيئة ويدخل فى ذلك النهى عن قتل الحيوان لغير مصلحة وتحريق الأشجار ، وإفساد الزروع والثمار ، والمياه ، وتلويث الآبار ، وهدم البيوت.
(6) المحافظة على الحرية الدينية لأصحاب الصوامع والرهبان وعدم التعرض لهم.
الآثار المترتبة على الجهاد
يتضح لنا مما سبق أن الجهاد فى الإسلام قد اتسم بنبل الغاية والوسيلة معا ، فلا غرو أن تكون الآثار والثمار المتولدة عن هذا الجهاد متناسقة تماما فى هذا السياق من النبل والوضوح ؛ لأن النتائج فرع عن المقدمات ، ونلخص هذه الآثار فى النقاط التالية:
(1) تربية النفس على الشهامة والنجدة والفروسية.
(2) إزالة الطواغيت الجاثمة فوق صدور الناس ، وهو الشر الذى يؤدى إلى الإفساد فى الأرض بعد إصلاحها.
(3) إقرار العدل والحرية لجميع الناس مهما كانت عقائدهم.
(4) تقديم القضايا العامة على المصلحة الشخصية.
(5) تحقيق قوة ردع مناسبة لتأمين الناس فى أوطانهم.
يقول الله سبحانه وتعالى فى سورة الحج:
(الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز ) (29).
قال الإمام القرطبى عند تفسيره لهذه الآية:
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) أى لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء ، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات ، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم فى الأمم ، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات ؛ فكأنه قال: أذن فى القتال ، فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الأمر فى القتال بقوله: (ولولا دفع الله الناس) الآية ؛ أى لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق فى كل أمة. فمن استشبع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه ؛ إذ لولا القتال لما بقى الدين الذى يذب عنه. وأيضاً هذه المواضع التى اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى ؛ أى لولا هذا الدفع لهُدمت فى زمن موسى الكنائس ، وفى زمن عيسى الصوامع والبيع ، وفى زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد. " لهدمت " من هدمت البناء أى نقضته فانهدم. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل فى تأويل الآية " (30).
ثانياً: الناحية التطبيقية
(1) حروب النبى صلى الله عليه وسلم:
(أ) الحرب ظاهرة اجتماعية:
الحرب ظاهرة إنسانية قديمة قدم الإنسان على ظهر هذه البسيطة ، فمنذ وُجد الإنسان وهو يصارع ويحارب ، وكعلاقة من العلاقات الاجتماعية الحتمية نشأت الحرب ، فالاحتكاك بين البشر لابد وأن يُوَلِّد صداماً من نوع ما ، لقد جبل الإنسان على غريزة التملك التى تدعوه إلى التشبث بما يملكه ، حيث إن هذه الغريزة هى التى تحفظ عليه البقاء فى الحياة ، وهى بالتالى التى تتولد عنها غريزة المقاتلة ، فى أبسط صورها دفاعاً عن حقه فى الاستمرار والحياة ، وقد تتعقد نفسية الإنسان وتصبح حاجاته ومتطلباته مركبة ، فلا يقاتل طالباً للقوت أو دفاعاً عنه فقط ، وإنما يقاتل طلباً للحرية ورفعاً للظلم واستردادا للكرامة. ويُفَصِّل العلامة ابن خلدون هذه الحقيقة فى مقدمته فيقول: " اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة فى الخليقة منذ برأها الله ، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته ، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان ؛ إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع ، كانت الحرب وهو أمر طبيعى فى البشر ، إما غيرة ومنافسة وإما عدوان وإما غضب لله ولدينه ، وإما غضب للملك وسعى فى تمهيده " (31).
(ب) الحرب فى الكتب المقدسة قبل الإسلام:
إذا ما تجاوزنا الأمم والحضارات البشرية ، وتأملنا فى الكتب السماوية المقدسة (التوراة ـ الإنجيل) ، نرى أن هذه الكتب المقدسة قد تجاوزت الأسباب المادية الغريزية التى يقاتل الإنسان من أجلها إلى أسباب أكثر رُقِيًّا وحضارة ، فبعد أن كان الإنسان يقاتل رغبة فى امتلاك الطعام أو الأرض ، أو رغبة فى الثأر الشخصى من الآخرين ، أو حتى ردا للعدوان ، نرى أن الكتب المقدسة قد أضافت أسباباً أخرى ، أسباباً إلهية تسمو بالبشرية عن الدنايا وظلم الآخرين ، إلى بذل النفس إقامة للعدل ، ونصرة للمظلوم ، ومحاربة للكفر والخروج عن منهج الله ، لقد حددت الكتب السماوية المناهج والأطر التى يُسْمَح فيها بإقامة القتال وعبرت بالإنسان مرحلة بناء المجد الشخصى المؤسس على الأنا ، إلى مرحلة التضحية من أجل المبادئ والمثل الإلهية العليا ، التى تعمل فى إطار الجماعة البشرية لا فى محيط الفرد الواحد.
الحرب فى العهد القديم:
وردت أسباب الحرب فى ست وثلاثين آية تقع فى ثمانية أسفار من أسفار العهد القديم هى: (التكوين ـ العدد ـ التثنية ـ يوشع ـ القضاة ـ صموئيل الأول ـ الملوك الثانى ـ حزقيال).
(1) ففى سفر العدد ـ الإصحاح الثالث عشر ، ورد ما يفيد أن موسى ـ عليه السلام ـ بعد خروجه بقومه من مصر بعث رسلا يتحسسون أمر أرض كنعان ـ فلسطين ـ ليستقروا فيها:
" فساروا حتى أتوا موسى وهارون وكل جماعة بنى إسرائيل إلى برية فاران إلى قادش ، وردوا إليهما خبرًا وإلى كل الجماعة ، وأروهم ثمر الأرض وأخبروه ، وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التى أرسلتنا إليها وحقا إنها تفيض لبناً وعسلاً وهذا ثمرها غير أن الشعب الساكن فى الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جداً وأيضا قد رأينا بنى عناق هناك " (32).
(2) وجاء فى سفر صموئيل الأول ـ الإصحاح الخامس والعشرون:
" فأجاب نابال عبيد داود وقال: من هو داود ومن هو ابن يسى قد كثر اليوم العبيد الذين يقحصون كل واحد من أمام سيده ، أآخذ خبزى ومائى وذبيحى الذى ذبحت لجارى وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم ؟ فتحول غلمان داود إلى طريقهم ورجعوا وجاءوا وأخبروه حسب كل هذا الكلام ، فقال داود لرجاله: ليتقلد كل واحد منكم سيفه وتقلد داود سيفه وصعد وراء داود نحو أربعمائة رجل ومكث مائتان مع الأمتعة " (33).
(3) وفى سفر الملوك الثانى ـ الإصحاح الثالث:
" وكان ميشع ملك موآب الثانى صاحب مواش ، فأدى لملك إسرائيل مائة ألف خروف ومائة ألف كبش بصوفها ، وعند موت آخاب عصى ملك موآب على ملك إسرائيل وخرج الملك يهورام فى ذلك اليوم من السامرة وعد كل إسرائيل وذهب وأرسل إلى يهو شافاط ملك يهوذا يقول: قد عصى على ملك موآب ، فهل تذهب معى إلى موآب للحرب ؟ " (34).
(4) جاء فى حزقيال الإصحاح الواحد والعشرون:
" وكان إلى كلام الرب قائلا: يا ابن آدم اجعل وجهك نحو أورشليم وتكلم على المقادس وتنبأ على أرض إسرائيل وقل لأرض إسرائيل هكذا قال الرب هأنذا عليك وأستل سيفى من غمده فأقطع منه الصديق والشرير من حيث إنى أقطع منك الصديق والشرير فلذلك يخرج سيفى من غمده على كل بشر من الجنوب إلى الشمال فيعلم كل بشر أنى أنا الرب سللت سيفى من غمده لا يرجع أيضاً " (35).
(5) وجاء فى سفر يوشع الإصحاح الثالث والعشرون:
" وأنتم قد رأيتم كل ما عمل الرب إلهكم هو المحارب عنكم انظروا: قد قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين ملكاً حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التى قرضتها والبحر العظيم نحو غروب الشمس والرب إلهكم هو ينفيهم من أمامكم ويطردهم من قدامكم فتملكون أرضهم كما كلمكم الرب إلهكم " (36).
(6) وجاء فى سفر القضاة الإصحاح الأول:
" وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوا بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل وسكان الجنوب والسهل ".
(7) وفى سفر القضاة الإصحاح الثامن عشر:
" فأما هم فقد أخذوا ما صنع ميخاً والكاهن الذى له وجاءوا إلى لايش إلى شعب مستريح مطمئن فضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار ولم يكن مَنْ ينقذ لأنها بعيدة عن صيدون ولم يكن لهم أمر مع إنسان وهى فى الوادى الذى لبيت رحوب فبنوا المدينة وسكنوا بها ودعوا اسم المدينة دان باسم دان أبيهم الذى ولد لإسرائيل ولكن اسم المدينة أولا: لايش " (37).
(8) وفى صموئيل الأول الإصحاح الرابع:
" وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب ونزلوا عند حجر المعونة ، وأما الفلسطينيون فنزلوا فى أفيق واصطف الفلسطينيون للقاء إسرائيل واشتبكت الحرب فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضربوا من الصف فى الحقل نحو أربعة آلاف رجل " (38).
(9) وفى التكوين الإصحاح الرابع والثلاثون: " فحدث فى اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابنى يعقوب شمعون ولاوى أخوى دينة أخذ كل واحد منهما سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف لأنهم بخسوا أختهم ، غنمهم وبقرهم وكل ما فى المدينة وما فى الحقل أخذوه وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما فى البيوت " (39).
(10) وفى سفر التكوين الإصحاح الرابع عشر:
" فلما سمع إبرام أن أخاه سبى جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر وتبعهم إلى دان وانقسم عليهم ليلاً هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى حوبة التى من شمال دمشق واسترجع كل الأملاك واسترجع لوطاً أخاه أيضاً وأملاكه والنساء أيضاً والشعب " (40).
(11) وفى سفر العدد الإصحاح الواحد والعشرون:
" فقال الرب لموسى لا تخف منه لأنى قد دفعته إلى يدك مع جميع قومه وأرضه فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الساكن فى حبشون فضربوه وبنيه وجميع قومه حتى لم يبق لهم شارد وملكوا أرضه " (41)
(12) وفى سفر العدد الإصحاح الخامس والعشرون:
" ثم كلم الرب موسى قائلا ضايقوا المديانيين واضربوهم لأنهم ضايقوكم بمكايدهم التى كادوكم بها " (42).
(13) وفى سفر العدد الإصحاح الثالث والثلاثون:
تطالعنا التوراة ، أن الله قد أمر موسى ـ عليه السلام ـ أن يشن حرباً على أقوام قد عبدوا غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ: " وكلم الرب موسى فى عربات مو آب على أردن أريحا قائلا: " كلم بنى إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم " (43).
(14) وشبيه به ما ورد فى سفر صموئيل الإصحاح السابع عشر آية 45: 47
" فقال داود للفلسطينى: أنت تأتى إلى بسيف وبرمح وبترس ، وأنا آتى إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم 000 فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل " (44).
(15) وفى سفر صموئيل الأول الإصحاح الثالث والعشرون:
" فذهب داود ورجاله إلى قعيلة وحارب الفلسطينيين وساق مواشيهم وضربهم ضربة عظيمة وخلص داود سكان قعيلة " (45).
(16) فى سفر المزامير المزمور الثامن عشر:
يسبح داود الرب ويمجده لأنه يعطيه القوة على محاربة أعدائه: " الذى يعلم يدى القتال فتحنى بذراعى قوس من نحاس.. أتبع أعدائى فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم أسحقهم فلا يستطيعون القيام ، يسقطون تحت رجلى تمنطقنى بقوة للقتال تصرع تحتى القائمين على وتعطينى أقفية أعدائى ومبغضى أفنيهم " (46).
هذه بعض من حروب بنى إسرائيل التى سجلتها نصوص كتبهم وأسفارهم ، فمفهوم الحرب والقتال ، ليس مفهوماً كريهاً من وجهة النظر التوراتية ، وكأنها حروب مستمدة من الشريعة الدينية التوراتية ، وهى كانت دائما تتم بمباركة الرب ومعونته وكأن الرب ـ حسب تعبير التوراة ـ قد استل سيفه من غمده فلا يرجع (47).
الحرب فى العهد الجديد:
كذلك نرى الإنجيل لم يهمل الكلام عن الحروب بالكلية ، بل جاء نص واضح صريح ، لا يحتمل التأويل ولا التحريف يقرر أن المسيحية على الرغم من وداعتها وسماحتها التى تمثلت فى النص الشهير " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر " ـ إلا أنها تشير إلى أن السيد المسيح ـ عليه السلام ـ قد يحمل السيف ويخوض غمار القتال إذا دعته الظروف لذلك ؛ فجاء فى الإنجيل على لسان السيد المسيح:
" لا تظنوا أنى جئت لأرسى سلاماً على الأرض ، ما جئت لأرسى سلاماً ، بل سيفاً ، فإنى جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه ، والبنت مع أمها والكنة مع حماتها وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته " (48).
ولعلنا نلاحظ التشابه الكبير بين هذه المقولة وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [ بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده ] (49).
مما سبق يتبين لنا واضحاً وجليا أن الحرب والقتال سنة كونية سرت فى الأمم جميعاً، ولم نر فى تاريخ الأمم أمة خلت من حروب وقتال ، ورأينا من استعراض الكتب المقدسة ـ التوراة والإنجيل ـ أنه سنة شرعية لم تخل شريعة من الشرائع السماوية السابقة على الإسلام من تقريره والقيام به كما مر.
لقد كان هذا القدر كافيا فى إثبات أن محمداً صلى الله عليه وسلم سائر على سنن من سبقه من الأنبياء ، وأن الجهاد لتقرير الحق والعدل مما يمدح به الإسلام ؛ لا مما به يشان ، وأن ما هو جواب لهم فى تبرير هذه الحروب وسفك الدماء كان جواباً لنا فى مشروعية ما قام به النبى صلى الله عليه وسلم من القتال والجهاد.
ولنشرع الآن فى تتميم بقية جوانب البحث مما يزيل الشبهة ويقيم الحجة ويقطع الطريق على المشككين ، فنتكلم عن غزوات النبى صلى الله عليه وسلم ، ممهدين لذلك بالحالة التى كانت عليها الجزيرة العربية من حروب وقتال وسفك للدماء لأتفه الأسباب وأقلها شأناً ، حتى يبدو للناظر أن القتال كان غريزة متأصلة فى نفوس هؤلاء لا تحتاج إلى قوة إقناع أو استنفار.
الحرب عند العرب قبل الإسلام سجلت كتب التاريخ والأدب العربى ما اشتهر وعرف بأيام العرب ، وهى عبارة عن مجموعة من الملاحم القتالية التى نشبت بين العرب قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم ، وليس يعنينا سرد هذه الملاحم وتفاصيلها ولكن الذى يعنينا هنا أن نقف على بعض الجوانب التى تصلح للمقارنة (الأسباب ـ الزمن المستغرق ـ الآثار التى خلفتها هذه الحروب).
قال العلامة محمد أمين البغدادى: " اعلم أن الحروب الواقعة بين العرب فى الجاهلية أكثر من أن تحصر ، ومنها عدة وقائع مشهورة لا يتسع هذا الموضع لذكرها ولنذكر بعضاً منها على سبيل الإجمال " (50).
وقد ذكرت كتب التواريخ أياماً كثيرة للعرب (البسوس ـ وداحس والغبراء ـ يوم النسار ـ يوم الجفار ـ يوم الفجار ـ يوم ذى قار ـ يوم شعب جبلة ـ يوم رحرحان 000 إلخ) والمتأمل فى هذه الملاحم والأيام يرى أن الحماسة الشديدة والعصبية العمياء وعدم الاكتراث بعواقب الأمور والشجاعة المتهورة التى لا تتسم بالعقل ، كانت هى الوقود المحرك لهذه الحروب ، هذا فضلاً عن تفاهة الأسباب التى قامت من أجلها هذه المجازر ، والمدة الزمنية الطويلة التى استمرت فى بعضها عشرات السنين ، والآثار الرهيبة التى خلفتها هذه الحروب ، وعلى الرغم من أننا لم نقف على إحصاء دقيق لما خلفته هذه الحروب إلا أن الكلمات التى قيلت فى وصف آثارها من الفناء والخراب وتيتم الأطفال وترمل النساء 000 إلخ لتوقفنا على مدى ما أحدثته الحرب فى نفوس الناس من اليأس والشؤم ، ويصف لنا الشاعر زهير بن أبى سلمى طرفاً من ذلك فى معلقته المشهورة وهو يخاطب الساعين للسلام بين عبس وذبيان:
تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فهو يقول للساعين للسلام: إنكما بتحملكما ديات الحرب من مالكما ، أنقذتما عبسا وذبيان بعدما يأسوا ، ودقوا بينهما عطر منشم ، ومنشم هو اسم لامرأة كانت تبيع العطر يضرب بها المثل فى التشاؤم ، دليل على عظم اليأس الذى أصاب نفوس الناس من انتهاء هذه الحرب (51).
أنا لا أومن بالناسخ و المنسوخ. المسلمون الذين ضلوا هم من ابتدع النسخ في نصوص القرآن.
العقل المنير.
شوف يا اخي بما انك صاحب فكر فلسفي لما لا تتعمق من دراسه القران وفهم نصوص بشكل ابداعي افضل من من تتخذهم نموذج في طرح موضوعك حيث ان القران كتاب مكنون لا يمسه الا المطهرون المقصود بالمطهرون ليس الذي ينظف جسمه وملابسه من الاوساخ بل الذي يكون طاهر القلب والمشاعر الانسانيه كالضمير مثلا لو تدبرت القران بموضعيه انسانيه مجرده لفتح الله عليك مكنوناته بالنهايه ان الله غني عن العالمين
أنا أتفهم تماماً شعور الكاتب بالغيظ من "وهم صاغرون" على أسياده وأصحاب النعمة عليه ...
الإسلام هو البادئ بالشر ... الاسلام منع حرية المعتقد عن أهل مكة ... وخان عهد اليهود ... وجمع لحرب قبائل العرب ... وحاول القبض على كسرى وهرقل ...
ولم يسالم القبط ... ولم يسالم مسيحيي القدس و .. و ... أليس كذلك يا أسير الغرب .. أم العكس هو الصحيح؟
...
الإسلام في سباق حاد مع الإلحاد في العالم على حساب كل المعتقدات الأخرى...
وتتزامن كل الهجمات مع الحملة الهمجية من أعداء الإسلام على أرض العراق والشام ...
من تدمير الأرض والحضارة والعائلة والإنسان وكذلك المعتقدات ...
ومع نشر الدعادش من الاستخبارات الغربية المستشرقة المتأسلمة ...
ولكل شخص يساعدهم أجره وسعره.
إرسال تعليق